منتدى فــرجيــوة الجزائري
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
دخول

لقد نسيت كلمة السر

المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 142 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 142 زائر

لا أحد

أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 462 بتاريخ الثلاثاء 4 يونيو 2013 - 14:24


 
   
     - قسم الشريعة الإسلامية
- النقاش السياســــــــي
- أقلامنا . . . . .
- أخبار الرياضة المحلية
- أخبار ميلـــــــــــــــة
- أخبار وقضايا المدينة
- قسم المجتمع المدني
- مناسبات خاصة جدا .
- شكاوى واقتراحات .

   
 
   
   

قصيد في التذلل... آخر رواية للطاهر وطّار على منتدى فرجيوة

اذهب الى الأسفل

قصيد في التذلل... آخر رواية للطاهر وطّار على منتدى فرجيوة Empty قصيد في التذلل... آخر رواية للطاهر وطّار على منتدى فرجيوة

مُساهمة من طرف الزرماني الخميس 26 أغسطس 2010 - 16:00

السلام عليكم
من آخر ما كتب الأديب الطاهر وطار روايته التي نشرها بجريدة الشروق اليومي

. رواية: قصيد في التذلل
(1)- الرهــــــــــــــن
2009.08.23 الطاهر وطار

الطاهر وطار «أعتذر لمن وجد تشابها بينه وبين أحد شخوص الرواية فما ذلك إلا محض صدفة... الله غالب»


لاحت بوادر ما أسماه بالكارثة، عندما أحس، ولأول مرة في حياته، أن كل ما قيل في تاريخ الإنسانية من شعر، بما في ذلك ما قاله هو، وصدر للناس في أكثر من ديوان، لا أهمية له، وأنه مجرد نصب على الناس، بالكلمات، ونصب على الشاعر أيضا من طرف المفردات.
حاول أن يتدارك الأمر، فراح يفتح دواوين الشعر التي في حوزته، واحدا إثر الآخر، مرة يقصد قصيدا معينا يختاره من الفهرس العام، ومرة يفتح، كما صادف، غير أنه في كلتا الحالتين، سرعان ما يحول بصره إلى سطور أخرى، وإلى صفحة جديدة، أو قصيد جديد.
توقف عند بيت أبي القاسم الشابي المشهور: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر، فضحك مقهقها، وهو يتساءل، أي فرق بين هذا الكلام وبين السلام عليكم وعليكم السلام. كل خطيب يريد أن يحمس الناس، يمكن أن يأتي بمثل هذا الكلام. ثم إن يوما هذه متسللة، أقحمها الوزن لا غير. بل إنها في غاية من الخطورة، فهو يفترض أن الشعب مستريح بدون الحياة، وقد يغير رأيه ذات يوم.
أين الشعر يا ناس؟؟
توقف عند بيت امرئ القيس: أفاطم مهلا بعض هذا التدلل، أغرّك مني أن حبّك قاتلي وأنك مهما تأمري القلب يفعل، فعلق ساخرا: هذا كلام صبية يمرحون في بهو المنزل. أيعقل أن يكون حب فاطمة ما في هذه الدنيا، قاتلا؟ ثم إن هذا الولهان الكاذب لم يمت ولا مرة واحدة. في الحقيقة لم يمت إلا عندما استمات في طلب الملك.
الملك. هو الحياة. وهو الغريزة الوحيدة، التي تظل تلازم كل الكائنات، ناطقة وغير ناطقة. متحركة، وجامدة. بما في ذلك الحب.
الهيمنة، هي سر البقاء في الوجود.
لا. أنا مريض. إني أتراجع عن حب ما كنت أحب؟
مريض. أتفسخ إلى نازي.
اعتراه قلق غامض، فقرر أن يراجع نفسه، فلعله... بل أكيد أن خللا ما يعتري حاسة تذوقه للفن الذي أبدع فيه هو كذلك.
أيعقل أن يكون إجماع الأولين والأخيرين مجرد وهم، ووقوعا في فخ النصب والاحتيال؟
أيعقل أن يكون هو وحده، العبقري الفذ الذي تفطن لذلك؟
غادر المنزل، ليتفسح قليلا في الشارع، تاركا وراءه الزوجة والبنت. مطمئنا عليهما، كل الاطمئنان، فرغم الظروف الأمنية، السيئة التي بدأت تعم البلاد، شيئا فشيئا، وهذه الجهة بالذات... لم يحدث في المنطقة السكنية هذه، ما يمكن أن يكدر الصفو، ويزعج الخاطر.
إنها محروسة من جميع الجهات، برجال مدججين بأسلحة مختلفة، كما أنها محاطة بكاميرات، ظاهرة وباطنة، وكل من يتحرك فيها صغيرا كان أو كبيرا، رجلا أو امرأة، يرصد، ويظهر في شاشات منبثة في أكثر من مكتب رقابة، بما في ذلك مكتب السيد الكبير. وربما سجل، إن لم يكن معروفا لديهم، أو إن اقتضت الحاجة، وأرسلت صورته، إلى مختلف جهات التوثيق.
ثم إن الدخول والخروج، لا يتمّان إلا من بوابة واحدة، محصنة تمام التحصين، ما عدا السيد الكبير، طبعا، فله منفذ خاص به، يتغير حراسه أكثر من مرة في الأسبوع، وأحيانا يوميا.
ظهر في أكثر من شاشة، تأمله أحدهم، وتساءل رافعا صوته كي يسمعه رفيقه في الجانب الآخر للهاتف الخاص بهم:
ـ السيد المدير على غير طبيعته اليوم.
ـ يبدو، كمن أصيب بضربة شمس، لا يدري لا اتجاهه ولا مقصده.
ـ على غير عادته.
ـ من يدري فالزمن الذي نحياه، يفاجئنا كل يوم بأسراره.
تدخل ثالث من مرصد آخر:
ـ يتحدث وحده. لا حول ولا قوة إلا بالله.
ـ هل له مقصد حسبما يبدو لك؟
ـ هو يتجول ليس إلا.
ـ لا تغفل عنه. المهم.
ـ جماعة النحو والصرف والفهامة هؤلاء، لا يُلامون. كل يوم لهم شأن.
ـ ربما يظهر في التلفزيون عما قريب. لعله يستعد لما سيقول.
ـ ربما.
ـ فهمتك. توقفْ عند ربما هذه، وتمسك بها لنفسك... كما تسمع الناس يسمعونك، وكما تراهم ربما وربما.. هم كذلك.
ـ شكرا حضرات.
الحلقة الثانية
قصيد في التذلل
2009.08.24 الطاهر وطار

طرح السيد المدير على نفسه أسئلة عديدة ومختلفة، تؤدي كلها، إلى محاولة معرفة، أصول الكارثة وتدرجها عبر الزمن، وتوصل إلى شبه وفاق بينه وبين نفسه، عندما استقر رأيه على أن الإدارة والتسيير، والمسؤولية بصفة عامة، إن لم يسلم المرء بأنها تقتل المواهب، كحب المال، تماما، فإنها على الأقل، تتطلب التلاؤم والانسجام، فترة معينة، قبل أن تجدد الموهبة نفسها بنفسها، كما كل خلية حية. الموهبة عطية ربانية، وهي كالجمرة، تظل خافتة تحت الرماد، إلى أن ينفض عنها وتهب عليها، نسمة فتستيقظ. تومض، تلتهب محمرة مزهوة، لتلهب كل ما حولها. فتكون نارا.


الحق الحق. هناك نوع من النصب والاحتيال، في الشعر، يقول قائلهم، باكيا على هيروشيما: تفجرت قنبلة في هيروشيما، فتركت كل شيء هشيما. ترى لو انفجرت في طوكيو، ما عساه يقول بدل هشيما، ثم لو لم تكن في العربية عبارة الهشيم هذه، ما كان سيقول شاعرنا النصاب.
ـ من مكتب السيد الكبير إلى السيد مدير الأمن.
ـ أوامركم. سيدي.
ـ لا تستهينوا بأمره. إنه يضحك قهقهة. أعدوا سيارة إسعاف.
ـ أوامركم.
أشار بسبابته، إلى صدره، بعد انقطاع قهقهته الفجائي:
آخر، تنصب عليه الكلمات نفسها، تتحول إلى كائنات شيطانية، تتراقص أمامه حتى تغريه، كما فعلت مع صلاح عبد الصبور، فورطته وراح يتسول: »يا من يعطني يوما من البكارة، أعطه ما أعطتني الدنيا من التجريب والمهارة«.
اختلطت عليه المسكين، النظارة والطهارة والحقارة فالتجأ إلى لاوعيه، المخزن العربي العام للدم، وغرف. لا أدري ما كان سيفعل بالبكارة، لو أعطيناه شهرا كاملا بدل اليوم الذي طلبه. ثم من قال له إننا في حاجة إلى تجريبه وإلى مهارته التي لا ندري في أي ميدان هي.
ليته طالب برطل منها بدل اليوم... فقد يكون جائعا.
قذارة وحق الله قذارة.
قال ودق كفا بكف، بانفعال شديد.

ـ لقد استخرج هاتفه.
ـ كلنا نراه.
ـ هل بالإمكان التقاط بعض مما يقول؟
ـ وهو كذلك. ركز على الكاميرا القريبة منه، رقم 17، وشغل الصوت.
ـ كيف الحال عندكم؟
ـ كما هي في كامل البلد. وربما، في كامل العالم العربي. وربما في كامل العالم الإسلامي: شطيح، ورديح... وياللن يا للان. ترنن ترن... وبُمْ بُمْ..
... أقول لك. اسمعني جيدا. لقد اكتشفت أن كل طبول العرب تتشابه شكلا ومضمونا، وترسل نفس الأصوات. وتطن بنفس الإيقاعات. كما اكتشفت، أن كل بطون النساء العربيات، يمكن أن تهتز يمينا، كما يمكن أن تهتز يسارا، كما يمكن أن تفعل كل ذلك في ذات الوقت. تدور على نفسها منتفضة. المهم هو نظرة الرجل العربي وأين تتركز. وكل شيء نسبي.
ـ دعك من هذا، لقد قلت لي نفس الكلام أول أمس. هل توقفت عبقريتك عن الإبداع؟
ـ أي إبداع؟
ـ الشعر؟
ـ حدثني عن المهم يا رجل؟ هل هناك ترقيات تخصنا. هل لحقت الميزانية؟ هل تسلمت الراتب؟ يقال إنهم سيرفعون رواتب المديرين. حدثني عن دفتر البنزين وهل يكفيك؟ حدثني عن قامة ذات الخدر، وعن لون شعرها، وعينيها، وصدرها، وهل تقوم بالواجب. ماذا تفعل بحراوية؟ أما تزال معك؟
ـ أرجوك ركز معي؟
ـ ماذا؟
ـ أشعر بالكارثة.
ـ أعوذ بالله. خفض صوتك يا رجل، في السابق كانوا يقولون: للجدران آذان. أما الآن فيجب أن نقول: للسماء آذان وعيون وذاكرة، كذلك.
ـ لقد فقدت حاسة الشعر.
ـ هأهأ هأهأ. وهل انتبهت لهذا، اليوم فقط؟ أنا قلت للشعر والشعراء باي باي، منذ بدأت أسعى لهذا المنصب الخداع. أنت حديث عهد، في المهمة، »مؤلفة قلوبهم« وستفهم. الزمن طويل يا أخي والعودة للشعر والترهات، يمكن أن تتم فيما بعد. يصير قول الشعر كجمع المال، الشطارة والحيلة والاستعانة. يطول السفر وينقطع الطفر. وتلد »مهرة أو مهرْ«.
أفضل ما تفعله، هو الالتزام بما قال الأولون: اللي ترهنو بيعو واللي تخدمو طيعو.. أنا رهنت، ولم ألبث أن بعت.
ـ تقصد الشعر.
ـ نعم، وإذا ما دعيت إلى أمسية، فاستخرج من دواوينك ما تيسّر... تحمّس وأنت تقرأ، غاضبا، ذكّرهم بأيام الرفض والتمرّد. ليعلموا أن الجذوة، ما تزال متّقدة. وترنمّ ناعسا عندما تتحدث عن الحب... وكفى الله الشعراء الكذب.
الزرماني
الزرماني
:: عضو شرفي ::
:: عضو شرفي ::

تاريخ التسجيل : 12/04/2009
عدد الرسائل : 823
الجنس : ذكر
قصيد في التذلل... آخر رواية للطاهر وطّار على منتدى فرجيوة 34m89662

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصيد في التذلل... آخر رواية للطاهر وطّار على منتدى فرجيوة Empty رد: قصيد في التذلل... آخر رواية للطاهر وطّار على منتدى فرجيوة

مُساهمة من طرف الزرماني الخميس 26 أغسطس 2010 - 16:02

الحلقة 3
قصيد في التذلل
2009.08.25 الطاهر وطار

اسمع. يكذب من يصف الشعر بغير البركان. ينفجر، ثم يخبو. قد يعاود النفثان، من حين لآخر، ولكن يفقد في كل حال، نفسه الأول.

- تقول؟
إنني لم أعد أستسيغ ما يسمى بالشعر.. تصور أن أحدهم يطلب رطلا من البكارة.
- هأهأ.. صلاح عبد الصبور.. أعطوه عشرة أرطال، وصدقني أنه لن يقوى على فعل أي شيء معها، لم يحدثنا التاريخ عن شاعر أرنب... لعله كان مسطولا لحظتها، فأراد أن يحلي لسانه.. هأهأ. نحن قردة، في الشكل لا غير، أما الباقي، فلعله للروائيين..هأأأهأأ.
- هأهأ... كعادتك.
- دعك منه. الشعر كدعوة الشر، يظهر من تلقاء نفسه ويصيبك من حيث لا تتوقع. هل قدمت برنامج النشاط للموسم القادم؟
- ربما فعلت ذلك، غدا أو بعد غد. لقد طلبني سيادته للاجتماع، ولم يحدد التوقيت بعد.
- لقد بدأ يتحدث في السياسة.. هل أسجل سيدي.
- سجل، وفي نفس الوقت، افتح الخط، على شاشة السيد الكبير. ربما يلذ له متابعة الحديث. أو يصدر أمرا.
- لحسن حظك، أنه يطلبك. أنا أدق الباب، وأدق على الأبواب، كما تقول فيروز، فما من مجيب...
- لا. نحن من حيث الاجتماعات، واللقاءات، ما شاء الله. اسمع ثمن الهاتف عليّ وقد أطلنا الحديث.
- سجله على النفقات الإضافية والسلام. يا سي عمر بن عبد العزيز. ألم تسمعهم يقولون: اخدم يا التاعس على الناعس، كلها يا الراقد بالنوم.
- باي. باي. سأنصرف لديوان الأخطل الصغير.
- بشارة الخوري. الهوى والشباب.. إيه يا حسرتاه على الزمان.
الهوى والشباب والأمل المنشود ضاعت جميعها من يديّ.
.....
يشرب الكأس ذا الحجا ويبقي لغد في قرار الكأس شيئا
لم يكن لي غد فأفرغت كأسي ولم أبق شيئا
استعن بفريد الأطرش لكي تتذوقه. باي.
- حضرات!
- في الاستماع.
- لقد وردت على لسان المتحدثين أسماء غريبة مريبة، لم أعرف منها سوى فريد الأطرش، وفيروز، وظني يذهب إلى أن هذين الاسمين مجرد رموز وإشارات.
- اربط كل ما يتعلق به بمكتبي وبمكتب السيد الكبير.
- السيد مدير الأمن، أهملوا أمره. إنها مجرد ضربة شمس.
ظل يفتح الدواوين ويغلقها. أحيانا يقرأ بيتا كاملا، وأحيانا الصدر أو العجز، وأحيانا يكتفي بتمرير بصره على الأحرف والكلمات، في حالة ذهول ولا مبالاة. وكثيرا ما تلمع في ذهنه كلمة من كلمات زميله المدير، فدفتر البنزين، يكاد ينفد، رغم أنه لم يستعمل السيارة، الشهر الحالي كثيرا، صحيح، أنه أعطى كاتبته بعض الوصولات، لعلها ثلاثة ولعلها أكثر، وأعطى السائق وصلين لاستعماله الشخصي، كما أعطى لمساعده سي ممد نات ثلاثة وصولات. لكن كل هذا لا يعني نفاد الدفتر بهذه السرعة.
طلبته أم البنت، كما تناديها أمه عندما تزورهم، مرة في وصل، تعين به جارتهم، فأشار إلى المحفظة، قائلا، الدفتر هناك.
لم يلاحظ أنه، ومنذ ذلك اليوم، سرعان ما يعتري الهزال الدفتر المسكين، وأن الجارة، إن كانت حقا، هي التي تتلقى الوصولات، أصبحت شريكة فعلية. ولم يشك في إمكانية أن تكون أم البنت، تبيعها، من وراء ظهره. لكن لا. ثم لا. فجرية منزهة عن السرقة. ربما تأخذ ولا غير.
رأسه. ذهنه. مشاغله. تتعدى كلها، مثل هذه الترهات والخزعبلات.
أراد أن يقرر، غير أن دفتر البنزين، يستوجب من الآن فصاعدا الصون والرعاية، فقد سرت إشاعة، مفادها أن الوزارة، تلقت تقارير، تشير إلى التبذير في هذه المادة الحيوية.
ضحك، وهو يقرأ شطر بيت، للأخطل الصغير، "ختم الصبر بُعدنا بالتلاقي"، يا له من ممنوع الرد بهته الكلمة صبور.. جملٍ، لا يتحرك، ولا يأتيه الفرج إلا بالصبر والاستسلام، ينام. تنام حبيبته. ينسيان بعضهما، حتى يحن عليهما الصبر، فيروح يتبجح بالتلاقي!
يجننوني هؤلاء الشعراء، أحدهم يمدح الصبر، وآخر يلغيه، ويعوضه بالشوق، والاهتياج، كما فعل ابن زيدون مناجيا ولادة: فما ابتلت جوانحنا شوقا إليكم ولا جفت مآقينا.. ولو أن الصورة، لا تليق إلا بشاب مراهق، لا وقار له يخشى فقدانه، وليس في مكانة أو عمر الشاعر الوزير المنفي.
لحلقة الرابعة
قصيد في التذلل
2009.08.28 الطاهر وطار

ثار في زوجته، عندما سمع بكاء ابنته، في الغرفة المجاورة، قلت لك مائة مرة، لا أريد أن أسمعها تبكي. ارضعيها أو اخنقيها أو ارميها من الشرفة.

سأهج من هذا البيت.
ـ ما بك يا رجل؟ كل الأطفال يبكون. لقد انتهيت من إرضاعها للتو.
قالت ثم أسرعت نحو مريم، انحنت، تهدهدها. اغرورقت عيناها ثم امتلأتا، فلم تمنعهما...
الرجل لم يعد يعجب. يا حسرتاه على ذلك الزمن، قبل، أن يتولى هذا المنصب، الملعون.
لا ينام كما ينام الناس، ولا يأكل كما يفعلون. كل اهتمامه مركز على المديرية. السيد الكبير. السيد رئيس الديوان. الآنسة سكرتيرة السيد الكبير. الآنسة سكرتيرته. الاجتماعات المتواصلة. كلما أراد الهروب من البيت، استل سيف الاجتماع. يحسب أنني غافلة، إلى هذا الحد، وأنني لا أملك الوسيلة لرصد تحركاته.. الجارة تتحدث عن مكائد السكرتيرات العوانس، وكيف أنهن ينتقمن من كل متزوجة، بالضحك، على أذقان الأزواج.
منذ مجيء مريم، الذي لم نكن ننتظره، وفي الحقيقة يئسنا منه بعد طول انتظار، تغير.
منذ زيارة أمه الأخيرة، ومنذ نعتتني بأم البنت، وأشارت إلى أنها قد لا تكون ابنته، قائلة بخبث شديد:
ـ العرق جبّاد. تشبه كثيرا أمها.
ظهر انقلابه النهائي.
لم يقل صراحة براحة، أنه يريد ولدا ذكرا، أو أنه يشك في، ولكنه، لا يتقرب كثيرا من مريم.. لا يحن إليها، ولا يحملها بين ذراعيه، إلا حين أمدها له.
قبل الزواج، يوم كنا في الجامعة، ويوم، كان اسمه النضالي »الوفي«، وكان اسمي فجرية، تعاهدنا على أن نبدأ ببناء الاشتراكية في بيتنا أولا وقبل كل شيء...
يهمس في أذني: أورورا، منقذة الثورة. أسأله: الوفي هذه، لماذا لا نجعلها فيدال، ونستريح؟
يأتي اليوم، يا رفيقة فجرية. يأتي اليوم الذي توضع فيه كل الأمور في نصابها. نسمي ابننا مباشرة، دون خجل أو وجل، ماو أو لينين، ونسمي ابنتنا، أولغا. أو روزا، نخرج ألسنتنا في وجه الرجعية والبرجوازية.
أجلنا، وأجلنا، الإنجاب، خوف العواقب، عندما كنا مطاردين، ويوم انقشع الغمام، كما هيّئ لنا، وجدنا أنفسنا شبه عجائز. ينصحني الأطباء بالتريث، فالإنجاب في سنّ متأخرة لا يخلو من مخاطر.

***

طالبة متفوقة في معهد العلوم الفلاحية، أتطوع بمناسبة وبدونها، لكل خدمة عامة، خاصة الثورة الزراعية، وفي إحدى الخرجات التقيت به...
في مثل سنّي، نشيط، حيوي. كامل الأوصاف كما قالت إحداهن عنه. ما يفتأ يتمتم بأشعار نجم ومارسيل خليفة.
تعرفت عليه، الرفيق، وافي، الذي انضم لخليتنا، قبل أسبوعين. تعرف علي هو بدوره.
ابتسم. ابتسمت.
كنا، اتفقنا أن نلتقي المرة القادمة، على الشاطئ المهجور، واخترنا، أحد الأزقة الضيقة، ذات المنافذ الكثيرة، لاستخلاف الموعد، في حالة، عدم التقائنا.
عرفت اسمه، وعرف اسمي. تجنبنا اللقبين النضاليين، وبدأنا نحتك بالمسائل الشائكة وبالمشاكل المعقدة. هو رئيس الفوج، وأنا مقررته.
كان وسيما بكل ما فيه، بطوله الفارع، بوجهه المستدير، بعينيه، الخضراوين اللتين لا يذكر من يتأملهما، أنه رآهما ترمشان، أو تغمضان. أبيض. عندما يضحك، تقفز إلى وجهه كل سنوات الطفولة التي مر بها، ببراءتها وبحذرها وبتطلعها. كامل الأوصاف بحق.
الشاعر.
الجميع يناديه الشاعر، يصعد في الأماسي، على كرسي أو برميل، أو كومة من الكومات الكثيرة، ويشرع في التلاوة. ترنيما، ونشرع نحن ذكورا وإناثا في الاستسلام للترنح.
يناور، فلا يقرأ قصيدة فجرية، وقبل أن يعلن عن نزوله، أهتف فيتبعني الجميع: فجرية. فجرية. يضحك، موجها بصره نحوي. يغمض عينيه، متسائلا: لولا فجرية كيف كان يتحدد طعم الحياة. أكان يأتي نهار، بدون فجر؟
لا أحد غيري، كان يعرف ما معنى فجرية، وما معنى الحياة التي يقصدها. أغمض عيني، وأتبعهم، الجنود المتعبين، يهربون بها أورورا، ثم يوجهون مدافعها نحو الأعداء...
فخورة كنت، بذلكم اللقب الثوري الذي حدد مصير الإنسانية أيامها.
سكتت مريم، سابحة في نوم لذيذ، ترتسم ابتسامة غير مكتملة، على شفتيها، غير مبالية بدموع أمها التي ظلت تضمها لصدرها، كأنما هي تستجيب لهاجس، يخدش أغوارها
الزرماني
الزرماني
:: عضو شرفي ::
:: عضو شرفي ::

تاريخ التسجيل : 12/04/2009
عدد الرسائل : 823
الجنس : ذكر
قصيد في التذلل... آخر رواية للطاهر وطّار على منتدى فرجيوة 34m89662

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصيد في التذلل... آخر رواية للطاهر وطّار على منتدى فرجيوة Empty رد: قصيد في التذلل... آخر رواية للطاهر وطّار على منتدى فرجيوة

مُساهمة من طرف الزرماني الخميس 26 أغسطس 2010 - 16:05

لحلقة الخامسة
قصيد في التذلل
2009.08.29 الطاهر وطار

كلمة الصحافي مثلا، مرتبطة بمعنى التغطية. كما أن مفردة التغطية ترتبط بالصحافة المكتوبة والمسموعة والمرئية. كلمة قام، مرتبطة بالمسؤول، وبصفة خاصة، بالمسؤول الأول. فما أن تسمع، حتى ينصرف الذهن إلى: بزيارة، بتفقد. بتدشين... كذلك الأمر بالنسبة للمفردات: أعطى وأجرى وتسلم.

حتى أن المرء، وهو يتصفح عدد اليوم من صحيفة ما، وعلى قلتها، أو يستمع إلى نشرة الأخبار، يهيأ له أنه قرأ الصحيفة السنة الماضية. وأن النشرة لم تنقطع من أذنيه على مدى عشر سنوات.
التفتت إليه، كان غارقا بين الصفحات.
ما دام يسائل دواوين الشعر، فالمشكلة لن تخرج عن ذلكم الإطار، البارحة بات يهذي.. الكارثة.. الكارثة.. حتى أنني خفت.
لا شك أن قصيدا ما يتمخض في صدره، ويتفاعل في رأسه، فقد بقي ما يقرب السنة أو أكثر، ـ منذ ظهر هذا المنصب ـ دون أن يقول شعرا.
مرت مناسبات عديدة، عرف فيها العالم الحزن، وعرف الفرح والمسرات، وخرجت مريم إلى الوجود، ولا شعر. شارك في عدة ملتقيات، ولكن، ظل أخرسا، لا يظهر في التلفاز، إلا في الصف الخلفي.
عندما سألته، قال لي في اشمئزاز، وتذمر، قرؤوا كلاما صابحا. الكارثة عامة.
***
تأملته، أصابعه ترتجف. شفتاه تتمتمان بما لا تدري، الدواوين الشعرية تتداول بين يدريه، نزار قباني، بعد المتنبي، بعد سميح القاسم.
نسيت نفسها، وغرقت في محاولة استجماع صورة حقيقية له.
مرة، وكانا يسيران على شاطئ، تعودا أيام العمل السري أن يلتقيا فيه، ليتظاهرا بأنهما ممنوع الرد بهته الكلمةان، بعيدان عن كل الشبهات.
المكان خال تقريبا إلا منهما والجو خريفي، مثقل بالذباب والرطوبة، قال بعد أن حدثها، عن اتصالات تجري معه، من طرف قوى مؤثرة في السلطة، إن انهيار الاتحاد السوفيتي، وانتصار الرأسمالية، وإن كان مؤقتا، على كل حال، وعوامل أخرى... يعني فيما يعني، موت الضمائر.
ـ لا أفهم.
ـ ينتصر الشيء. فعندما تظلم الدنيا، سواء بالظلام أو بالضباب أو بالغبار الدسم، أو بعمى البصر، يتجنب الناس النظر في عيون بعضهم البعض. ويصير الشعر صابحا، ويفقد الجمال رونقه، ويعوض البلاستيك، الروح.
هي نهاية بداية وبداية نهاية. هذه هي الجدلية التاريخية.
ـ لا أفهم.
ـ الحزب مات. استولوا عليه.
ـ من؟
ـ من ليسوا في حاجة إليه. من لا يليق لهم. وهم يستلون روحه، نفسا فنفسا. أوصلوه إلى حد تمجيد الخوصصة، والتبشير بأمريكا جديدة، ذئبا أنيابه، لا توجع، أمريكا تحمينا من أنفسنا.
ـ وماذا يريدون عندنا بهذه الاتصالات؟
ـ إنشاء حزب وتجنيد المبدعين المعربين، في الداخل والخارج، ضد الإسلاميين. ويشيرون إلى طي بعض الصفحات، وتطعيم النظام.
ـ فقط؟
ـ هذا ليس بقليل. حزب لهم، نقوده نحن، مجموعة من اليساريين، سواء المنسحبين من الحزب القديم، أو من الذين يمكن إغواؤهم.. البلاد كلها، صارت أحزابا، وما اكتفوا.
أردت أن أسأله عن سبب اختيار هذا المكان بالذات للقائنا، ونحن لم نعد نخشى العيون، لكنه سبقني، عندما واجهني ممسكا بيدي الاثنتين:
ـ هنا فتحنا النقطة الأولى في الحلقة، وهنا نغلق هذه الحلقة. بوضع النقطة الأخيرة.
-ماذا تعني؟
-انسلخت من الحزب، برسالة رسمية، وعليك أنت أن تختاري سبيلك.
ـ في الحقيقة لم أعد أشعر بوجود الحزب منذ ما يزيد عن سنتين. وفي داخلي، أحسني يتيمة الأبوين.
يهيأ لي أنه لم يبق من حزبنا سوى تصريحات صاحبنا، الذي نصب نفسه القاعدة والقمة. الهياكل كلها والقيادة.
ـ يخلف ربي على الشجرة وما يخلفش على قصّاصْها.
ـ وما العمل؟
ـ قهقه.. مرددا: تضامن العمال والفلاحين. خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء.. أتريدين أخرى؟
ـ صابحة هذه.. هات غيرها..
لم تقل ما العمل، إذا بقينا بدون حزب. نقرأ الجرائد ونعلق ساخرين على الأحداث. ألا يمكن أن نتحايل على السلطة، وندخل في لعبتها. مثلما يفعل عادة يساريو الصالونات والانقلابيون..؟
ـ العمل يا حبيبتي فجرية، هو أن نتزوج أولا. لا خطوة إلى الأمام، ولا خطوتان إلى الوراء. ولا مراوحة. نقف لحظات، ينظر فيها كل واحد منا في عيني صاحبه. يحدق فيهما مليا مليا، يستشف الصدق من الكذب، الصُّح من الخطإ. نعري على ضمائرنا في نور الشمس، نجعلها، شفافة لا خدشة فيها ولا ذرة غبار. نعيش إنسانيتنا قليلا، يا للأَّ فجرية.
وفي الغد، تزوجنا.
***
ـ هل أعد لك فنجان قهوة؟
رفع رأسه، تأملها، حدق في عينيها، تابع كامل جسدها، من رأسها إلى قدميها، الشعر البني، العينان المستديرتان الضارب لونهما إلى الحمرة والزرقة معا، الوجه المزهر المستدير، أنف الهرة المطل على فم مكتنز، وذقنٍ ناتئٍ بعض الشيء. العنق الطويل، الصدر الممتلئ الناصع البياض، الخصر الضامر، العجز، المستطيل، مع استدارة خفيفة، الركبتان الطويلتان، الساقان، الصلبان المستقيمان.
آنا كرنينا بالذات والصفات. كما يتصورها كلما أعاد قراءة الرواية، وكما عرفها في فلم شاهده عشرات المرات.
لحلقة السادسة
قصيد في التذلل
2009.08.30 الطاهر وطار

حمل عدة دواوين وألقى بها بعيدا. وقف. ارتمى في حضنها. انفجر باكيا.

احتضنته. ضمت رأسه إلى صدرها برفق وحنان، كما تفعل مع مريم.
ـ الكارثة حلت يا فجرية. حلت. فقدت المذاق. الشعر صار مجرد كلام.
كان يجهش، وكانت تضمه أكثر، متذكرة نفس الحالة التي حصلت بعد تنصيبه مباشرة. يوم عاد محموما. وما أن دخل حتى ارتمى في أحضانها منفجرا.
ـ هلكت نفسي يا فجرية. السيد الكبير أدخلني إلى مكتبه. كان مكتبا فخما، حسبت أنه يفوق في فخامته، كل فخامة. أشعل سيغارا غليظا طويلا، استرخى في أريكة جلدية وثيرة. تركني واقفا لحظات، ثم أمرني بالجلوس، أمرني يا فجرية، قال بصوت فج، اجلس. انشغل بالهاتف مدة، وتظاهر بتفحص أوراق مدة أخرى، ثم وجه لي سؤالا باردا:
ـ أنت مدير الثقافة الجديد، حينئذ.
ـ إن شاء الله.
ـ الثقافة عندنا هي الثورة... التحقت بصفوف جيش التحرير الوطني وأنا لم أبلغ الخامسة عشرة. كل جبال الجزائر تعرفني، القل وجيجل والأوراس والنمامشة، من أحمر خدو إلى جبل بلوط، خضت فيها كلها، معارك.
في الأول، أعطوني بيريتا، جميلة، ثم لما رأوا قدراتي القتالية، أعطوني موزيرا ألمانيا ثقيلا، ولم يمض طويل وقت، حتى كلفوني بالمدفع الرشاش.
هل أديت خدمتك العسكرية؟
لا يهم تسمع بالمدفع الرشاش ولا شك. ينصبونه هكذا على رجليه، انظر. هكذا.. فيكون على شكل جرادة متوثبة للقفز، أو حرباء، تكمن لغريمها. هذا المدفع الرشاش، يا سي مدير الثقافة، لم أقتصر على استعماله متمددا أو جالسا، كما يفعل غيري، إنما كنت أقف وأحمله هاتفا الله أكبر الله أكبر. في معركة واحدة أسقطت ما يزيد عن عشر طائرات ب 62، لم تكن يومها الب 63 قد ظهرت. أما الدبابات، فحدث ولا حرج. إذا ما استهدفت واحدة منها، فقل الرحمة عليها وعلى ركابها.
تسمع بالمورتي يعني المدفع 215؟
أرسلت لنا الصين الوطنية، التي كان على رأسها يومئذ صديق الجزائر، كاي تشوك، كمية كبيرة منها، فكنت أنا أول من أطلق القذيفة الأولى به. كان ذلك في جبل سيدي أحمد بتاجروين قرب بسكرة، ناداني قائد الولاية، يومها، سي عبان رمضان الله يرحمه، وقال لي، اظهر لنا شطارتك. ألقيت المدفع على كتفي، صرخت الله أكبر. الله أكبر، فسقطت الطائرة الأولى. صرخت مرة أخرى، الله أكبر، فسقطت الثانية، أما الدبابات والآليات الأخرى فحدث ولا حرج.
ماذا أقول لك، كانت معركة عظيمة، سقط فيها ما يزيد عن ألف عسكري من جانب العدو، أما نحن فقد حمانا المورتي الـ215 العظيم.
قلت لي لم تؤد الخدمة العسكرية؟
ذات مرة أحضر الفدائيون، مجموعة من الخونة، ربما كان عددهم خمسين ربما أكثر أو أقل بقليل. ترأس سي عبان رمضان رحمه الله، المحكمة، وكان ذلك في مقر قيادة الولاية الأولى بجبل بلوط. أصدر الحكم بذبحهم جميعا. كلفني بذبح عشرة منهم، وأعطاني خنجرا في طول السيف. مدتهم صفا واحدا. هكذا.. هذا جنب هذا، كالسردين. ورحت أذبح بالثلاثة. كل ثلاثة خونة في دفعة واحدة، وبجرة سكين واحدة.
ماذا أقول لك؟ الأخير وضعت رأسه على كفي هذه هكذا... ظل يحدق فيّ ويتحدث معترفا بخيانته، أكثر من ساعة. وكان سي عبان رمضان رحمه الله منبهرا مشدوها.
الثقافة من الشعب وإلى الشعب، كما قال السيد الرئيس أطال الله في عمره. ونجاه من كل بلاء، وأبعد عنه كل سوء، ودحر كل من ينظر إليه بعين خبيثة.. اللهم آمين يا رب العالمين.
أنت إذن مدير الثقافة الجديد؟
سلفك، حاول قبل أن يُنقل، أن يستدرجني فأملي عليه مذكراتي، تسجيلا لتاريخ ثورة المليون ونصف المليون شهيد، العظيمة، حتى لا يضيع برحيلنا، هذا التاريخ الجليل. فمهما، كان، نحن بشر، والأعمار بيد الله، وكما يقول السيد الرئيس، لو تدوم لي لن تصل إلى غيري... أبدا، أبدا.
بلغني أنك تقول الشعر؟
رائع وجميل، هذا يساعدك في مهمتك، فالأعياد كثيرة ما شاء الله، والمناسبات الثورية متنوعة، وزيارات الوزراء متواترة على ولايتنا، وأنا أيضا كثيرا ما أقوم بجولات التفقد في البلديات والدوائر.
أتعلم أنني، الممثل الأول بل الوحيد للدولة ورمزها بعد رئيس الجمهورية.
رائع وجميل أنك تقول الشعر.
هل تكتبه، أم تقوله من رأسك.. لا يهم الشعر شعر. وفي الحقيقة، وحسب معرفتي الواسعة، والكتب الكثيرة التي قرأتها، وحسب ما يروج، فأنتم المعربون، تليقون أكثر للشعر. لحسن حظك، أنك عينت في مجال الثقافة، فبلدنا والحمد لله، غني بالفلكلور، وهذه الولاية بالذات، تشكل تقريبا كل ما في بلدنا من رقص وغناء وأنغام وفروسية كذلك.
أريد، أن تكون أيام هذه الولاية كلها أعراسا في أعراس.
الزرماني
الزرماني
:: عضو شرفي ::
:: عضو شرفي ::

تاريخ التسجيل : 12/04/2009
عدد الرسائل : 823
الجنس : ذكر
قصيد في التذلل... آخر رواية للطاهر وطّار على منتدى فرجيوة 34m89662

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصيد في التذلل... آخر رواية للطاهر وطّار على منتدى فرجيوة Empty رد: قصيد في التذلل... آخر رواية للطاهر وطّار على منتدى فرجيوة

مُساهمة من طرف الزرماني الخميس 26 أغسطس 2010 - 16:06

الحلقة السابعة
قصيد في التذلل
2009.08.31 الطاهر وطار

هل تعرف ما قاله الشيخ بورقعة: الشفة بلا سواك تحمار والعين بلا كحل سودة... الرقبة كاس بلار والقامة نخلة مقدودة. هذا هو الشعر الذي يلزمنا.؟ هل تعرف كيف تحمر الشفة بدون سواك؟

قال لي أحدهم وهو من أصحاب المحنة أيضا، عض إصبعك، وسترى، فلم أفهمه والله.
أنت إذن مدير الثقافة الجديد.؟
تصور أن سلفك، عندما طلبت منه رزنامة نشاطه، قدم لي برنامجا كله محاضرات، وقراءات، وكلام فارغ.
بلدنا عظيم بفولكلوره وفنونه الشعبية. وإلا كيف تكون الثقافة هي الثورة.
قال لي أحدهم، هو نفسه الذي سألته عن الشفة، إنه التقى في نيودلهي بالشاب خالد، وسمعه يغني: أدّي أدّي.
أنت بحكم أنك مثقف عاقل، كما يبدو، وتفهم الفولكلور، هل تعرف ماذا يقصد الشاب خالد، بأدّي أدّي.
لا علينا، الكلام الغامق، مثل هذا يحتاج إلى جلسات مطولة، وإلى بعض المرفهات. ستشرح لي ذلك، مرة أخرى. بحول الله. وعلى كل حال، ما دام الاندونيسيون، فهموا أدي أدي فلا بد من استخلاص، أنها كلمات أندونيسية.
ما دمت تحسن الاستماع، فسنعقد مثل هذه الاجتماعات باستمرار، ولا شك أننا سنكون أصدقاء، سنتعاون بحول الله، وأنا من جانبي لن أبخل عنك، بتجربتي وخبرتي، إنما، وكما قال السيد الرئيس، اليد الواحدة لا تصفق.
المطلوب منك، أمر واحد، هو أن تفتح أذنيك جيدا، لكل كلمة تصدر عني، أو تقال عليّ، أو على السيد الرئيس، حفظه الله وأبقاه. والباقي ستعرفه وحدك شيئا فشيئا.
كارثة يا فجرية كارثة.
لقد رهنت روحي للشيطان ولا أخال أنني سأستردها يوما.
لا عليك، ستجد الطريق للتغلب عليها، وتجاوزها.
قالت، وقادته إلى الفراش. أسدلت الستائر بعد أن دثرته بإزار وردي.
سمعته وهي خارجة، يجهش في صمت.
خفت إجهاشه، حاول أن يغفو، تقلب يمينا، شمالا، غطى وجهه، عراه، في الأخير غطى عينيه، والجزء الأعلى من أنفه، وترك فمه ومنخريه، للتنفس، فقد كان الضيق يغالبه. كما كان وجه السيد الكبير يحاصره، بخصوصياته التي لم يسبق أن شاهدها عند غيره.. يغلق فمه، فيبدو بعينيه الشرستين كما لو أنه في حالة توثب لخنق غريم، أما إذا فتح فمه، فتنقلب الصورة رأسا على عقب.. تظهر من تلقاء نفسها، ضحكة ودود مرحبة، جاهزة، كما لو أنها منحوتة على رخام قرمزي منذ عهود غابرة. غير أن هذه الضحكة، سرعان ما تنطفئ، بمجرد أن تلحظ العينان، أن الطرف المقابل، لا يستحقها، وأنها أعدت للمناسبات العظيمة، وللرجال العظام.
تنفتح العينان. ينفتح الفم. تمساح يتثاءب. يتقلب يستجدي التخلص بالنوم.
يتواصل كابوس اليقظة.

حاول أن يفتح نافذة السيارة قليلا، فابتسم صاحبه.. كل مفاتيحها في يدي، لا تزعج نفسك، هل تريد فعلا، فتح النافذة، أم تريد أن أشغل البراد.
ـ أشعر بالاختناق. المهم، قليل من الهواء الطبيعي.
تخلصا من المدينة، وقصدا نفس الشاطئ الذي تعود بعض الرفاق، أن يتواعدوا فيه، توقفت السيارة، تنزلا، وراحا ينظران إلى بعضهما البعض. الوفي يريد أن يفهم معنى ما لهذه الحركة، الضابط، يريد أن يقبض على أثر المفاجأة عليه.
كان بإمكاننا أن نلتقطكم كالفئران واحدا إثر الآخر. لكن التعليمات التي لدينا، أن لا نربح العيب معكم. نريدكم، ولا نريدكم. نريدكم أصواتا أو بالأحرى الصوت المخالف، ولا نريدكم، جسما أو هيكلا يحتل حيزا. أو يضايق.
قد يكون هذا الضابط، أحد الرفاق المنحرفين؟ تساءل في سره، ولم يستبعد ذلك. كما قد يكون متبجحا بمعلومات حصل عليها بشكل أو بآخر، فكثير من الرفاق تعرضوا للتعذيب، فوق ما تطيق الإرادة البشرية.
ـ أفهم من هذا أننا مخترقون، حتى النخاع؟!
ـ ليس بمعنى الاختراق. إنما التعاون بيننا وبينكم متين في كثير من الأمور. ألستم دعاة العمل الوحدوي.
ـ بلى.
ـ لقلد استجبنا.
ـ إنما ذلك، كان أيام البناء الديمقراطي، أيام الثورة الزراعية، والتطوع، والتأميمات الكبرى، ومعاداة الامبريالية والاستعمار، أيام المرحوم وتوجهاته الإيجابية، والآمال التي يزرعها في نفوس الكادحين.
ـ الأجهزة الأمنية، لا تفقه كثيرا في السياسة.
ـ ربما كان خطأ غرباتشوف أنه حاول أن يفهم في السياسة..؟
كانا يتمشيان، يصطحبان الصمت، ويحنيان رأسيهما، كل منهما، غارق في خيالاته.
ـ صراحة لا أستطيع أن أربح العيب مع الإسلاميين، ورأيي، وهذا ما أختلف فيه كثيرا مع الرفاق، ينبغي أن نميز بين الفصيل، هذا، والفصيل ذاك. هذه ظاهرة تاريخية عادية، ينبغي أن نضعها في شموليتها، ولا نجزئها. ليست جزائرية فحسب، وإن كانت النكسة الاقتصادية عندنا تشكل عاملا قويا في يأس الناس منا، وتضفي خصوصية، على أساليب عملهم.
ـ تقول منا؟
ـ أقول، فقد كذبنا على الناس معكم ما فيه الكفاية... أنا شخصيا، ضد الإلغاء والإقصاء وضد المعالجة الأمنية.
كان الضابط، قد التجأ إلى الصمت، وكان الوافي، قد استسلم للمكان يعيده للقاء تاريخي، جرى ها هنا مع رفيقين. هذا ربع قرن.
نختطفه، بكل سهولة. أنا أتولى العملية...
قصيدة في التذلل الحلقة الثامنة
الرهن
2009.09.04 بقلم: الطاهر وطار

كان قد أعد خطة لاختطاف أحد العقداء المهمين في وزارة الدفاع، ترصده في سكنه البحري، بالجميلة، عدة أسابيع، عرف الشيء الكثير عن تحركاته، وتحركات زوجته الألمانية، وأمها.

كانت المنطقة ساحة كبيرة، خالية من السكان، فيلاتها الجميلة، انتزعت منها النوافذ والأبواب، والمداخن الرخامية البديعة، وكل ما يمكن انتزاعه، وعمها الغبار والغائط الجاف، والأوراق المتسخة، وصور الفنانات في حجم كبير، ملوثة. يظن من يقترب منها، أنها مأوى للشياطين والأرواح الشريرة.

للساحة الكبيرة المستديرة، منفذان، يمكن أن يلتقيا وسط المدينة، ويمكن لأحدهما أن لا يمر على المدينة، إنما يشق بعض بنايات ويتجه جنوبا نحو الغابة الكثيفة، أو نحو القرى الساحلية الأخرى، وهو بالذات نقطة ضعف سكن حضرة العقيد.

لم تكن هناك حراسة مهمة على حضرته، ويمكن لثلاثة أو أربعة رفاق، أن ينجزوا المهمة. يلقون به في أية سيارة أو شاحنة مغطاة، وينصرفون في أمان، سواء نحو الغابة، وكانت، كل غابات الجزائر، خالية إلا من الذئاب ومن الخنازير البرية، والكلاب والقطط الضالة، بعد أن هاجر أصحابها مرعوبين الجزائر، كما يمكن أن يرمى في أحد القوارب المتروكة على الشواطئ ويغير به المنطقة كليا. وهناك يتدبرون أمرهم.

ـ دبروا مكان إخفائه والباقي علي.

ـ وماذا نفعل به؟

سألوه، فأجاب، نساوم به على إطلاق سراح الرئيس الأسير، أو الرفاق المسجونين، زهوان وحربي وبشير حاج علي .

لا نخوض معركة مسلحة. وليس لنا أية نية في التحول، إلى حركة إرهابية.

جاءه الجواب النهائي، فراح يسائل نفسه:

فقط، نتخفى، وننشئ المناشير، ونعرض أنفسنا لخطر القبض علينا، وندفع الاشتراكات..؟

ما معنى تسمية حركتنا إذن، بمنظمة المقاومة الشعبية.؟

كما ظل، وإلى وقت متأخر، وربما إلى اليوم، يتفقد خلوة العقيد الذي سقطت به فيما بعد مروحية.

هل يمكن لوم الرفاق، على أنهم تخلوا عن مقاومة الانقلاب، وتوجهوا إلى استعادة الحزب ؟

لعلهم معذورون، بأنهم لم يجدوا التجاوب من لدن باقي الشرائح الوطنية الأخرى. فقد كانت الصدمة قوية جدا، لم يكن أحد ينتظرها، وكان الناس متلهفين على الحياة، يغرفون من متاع الدنيا، بلا حساب. وكانت مؤشرات الانفتاح الاقتصادي، والاجتماعي، التي ظهرت في ملصقات الإعلانات عن البيرة الوهرانية، وفي انتزاع عدة مزارع من عمال التسيير الذاتي، ومنحها لمجموعة من المجاهدين، كلها تشجع، على عدم الالتفات إلى الوراء. كما كان الإعياء من الحرب وتبعاتها، أحد الأسباب في طأطأة الناس لرؤوسهم، لسان حال الجميع يردد ما نسب للشعب غداة الاستقلال:

سبع سنوات بركات.

لقد أسدل الستار من يومها عن أمل مواصلة الثورة، وفتح الباب، للاسترخاء والنهب. ولا أحد تساءل من الخبيث الذي أطلق هذا الشعار الملغوم؟

لعل الناس أدركوا بالغريزة، أن مسألة الانقلاب العسكري، لا تتعدى كونها صراعا على السلطة، داخل أسرة جبهة التحرير الوطني، التي ما فتئت تعاني الاضطرابات الداخلية، مسلحة وغير مسلحة، منذ ميلادها القسري، والتي لا يعنيهم شأنها في أول وآخر الأمر كثيرا؟

همس بدون سبب.

ـ لقد شكلنا مع ذلك، حجرة ثقل لا يستهان بها، في ميزان سير الأحداث وتطورها.

ـ ما في ذلك من شك. كنا السند القوي، إن لم أقل الوحيد للشق الوطني، في حركة التصحيح. لعلني أستطيع استعمال عبارة، الحافز للضمير الوطني، على عدم الاستسلام للموت.

ـ لكن لو أقدمتُ على اختطاف العقيد زوج الألمانية، لاتخذت الأحداث مجرى آخر.

فلتت منه العبارة، وقد نسي صفة صاحبه، كما فلتت من الضابط كلمة كنا. فبادر كل واحد صاحبه:

ـ ماذا قلت؟

ـ لا شيء كنت أحدث نفسي.

ـ قلت كنا. هل خنتنا؟ والتحقت بالصف الآخر.

ـ طلبت الإذن، وكان ذلك في بداية الإعلان عن الثورة الزراعية.. قلنا ندعم.

ـ لكنك قلت كلاما مهما جدا. هل جرى التفكير فعلا في اختطاف العقيد أياه؟

ـ خطر لبعض الشباب ذلك، لكن القيادة كانت حكيمة.

ـ بالعكس، كانت غبية. فلو حدث ذلك، لانهار النظام الذي لم يكن أيامها متماسكا، ينتفض المجاهدون المتبرمون من ضباط فرنسا داخل وخارج صفوف الجيش الوطني الشعبي، وتلتحق بنا قوى كبيرة من مناضلي جبهة التحرير الوطني، ونكسب احترام وتقدير الشعب، فينضم إلينا كذلك.

كان الهلع سيستولي على القيادة الانقلابية، فتعيد كل حساباتها وحساباتنا... وربما تجفل. كان الانقلاب يذهب أدراج الرياح، في أقل من أسبوع. يا للفرصة الضائعة. مَن هذا الغبي الذي اتخذ هذا القرار؟
الزرماني
الزرماني
:: عضو شرفي ::
:: عضو شرفي ::

تاريخ التسجيل : 12/04/2009
عدد الرسائل : 823
الجنس : ذكر
قصيد في التذلل... آخر رواية للطاهر وطّار على منتدى فرجيوة 34m89662

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصيد في التذلل... آخر رواية للطاهر وطّار على منتدى فرجيوة Empty رد: قصيد في التذلل... آخر رواية للطاهر وطّار على منتدى فرجيوة

مُساهمة من طرف الزرماني الخميس 26 أغسطس 2010 - 16:08

الحلقة التاسعة
قصيد في التذلل
2009.09.05 الطاهر وطار
.



الله أعلم. كانت الظروف شاقة، نهرب من زنقة مظلمة لأخرى، ومن شاطئ مهجور لآخر، وأنتم تتعقبوننا بلا هوادة. لا أعتقد أنه قرار جماعي ولو أنني أشتم منه رائحة مواقف وتوجهات سي بن زين.
ـ ... قل هم.. لقد لبثت في الحركة، عشر سنوات كاملة... يا أيها الرفيق...
يا للفرص الضائعة في تاريخ الشعوب؟ من هذا العبقري الذي فكر في العملية؟
ـ أراك تنفعل كما لو أنك مازلت خارج النظام.
ـ في كل المواقع يوجد من يحبون وطنهم ويضحون من أجله، ومؤسستنا، ككل هياكل الدولة، فيها وعليها. هل كنت صاحب الفكرة؟
ـ كنت أكثر قربا من باقي الرفاق، لواقع المجتمع الجزائري، وأقرب من كثير منهم، لطبيعة حركة التحرر الوطني. وكنت وما أزال صادقا، في معاداة الانقلاب.
غفا.
قالت فجرية، تخاطب ابنتها التي سارعت، إلى حملها، ووضع ثديها بين شفتيها، بعد أن أطلت من الباب.
غفا بابا المسكين. اسكتي مامّا دعيه، يسترح قليلا.
لا تلوميه، إن انزعج من بكائك، فهو أيضا صغير.
بابا شاعر يا مريم، صغير من مهده إلى لحده. وككل الأطفال، لا يعرف النار قبل أن تحرقه.
سسي ماما سسي.
ألقت نظرة أخرى عليه. كان يتخبط تحت اللحاف الوردي، كأنما به حمى. قررت أن لا توقظه، فلا شك أنه يعاني كابوسا ما.
لا شك أنه في أحد الاجتماعات معهم.
الحقيقة أنه لم يكن في أي اجتماع، إنما كان في عرس كبير.
طاردوه، حتى حصروه في زقاق لا منفذ أمامي أو جانبي له. عبارة عن علبة مستطيلة لا اعوجاج فيها.
كانوا يحملون برنسا أبيض، ويتقدمون منه مزغردين.
لم يكن في الزقاق العجيب، أي باب يمكن أن يلج منه. كل البيوت بلا أبواب وبلا نوافذ، فقط تنطلق منها رائحة عفونة ونتانة.
أدار رأسه يمنة وشمالا، رفع بصره إلى فوق. الزقاق علبة جوفاء، كأنما أعدوه له. لم يعرفه قبل اليوم، بل، يشك فيما إذا كان موجودا قبل اليوم على هذا الشكل.
ألقوا عليه القبض أخيرا.
لم يقاوم.
الطائر الحر، لا يتخبط حين يقع في الفخ.
حملوه على أكتافهم. صديقه الضابط. كأنما هو، لعله شخص آخر يشبهه كثيرا، هو الذي يحمله.
ساروا به. يتغنون ويزغردون. تتقدمهم فرقة يرتدي أفرادها، وهم كلهم شباب لا يتجاوزون السادسة عشرة، لباسا تركيا، على رؤوسهم شواشي حمراء. بين أذرعهم طبول ودفوف، وفي أفواههم مزامير وزرن.
كان اللحن والإيقاع، لطلع البدر علينا من ثنيات الوداع، غير أن الكلمات، تختلف، كل الاختلاف.
مرة يهتفون.. رايحة لبيت الجيران. مرة أخرى، يرددون.. يا حبايبي يا غايبين، لو أفتح وأغمض ولاقيكم يا غاليين. مرة يهتفون.. تمخطري يا عروسة.
عادوا به، أو بالأصح أحضروه إلى العرس.
كان في المنصة عدة غلمان يتوسطهم شخص ضخم الجثة، أسود، كبير المنخرين، بارز الوجنتين، جاحظ العينين. سرعان ما فهم أنه كافور الإخشيدي، وسرعان ما أدرك أيضا أن كافور هذا، هو العريس، وأنه هو، الشاعر، العروس، خاصة وقد شرعوا يغيرون لباسه بلباس نسوي فاخر، ويطلون وجهه بالمساحيق، ويرشونه بالعطور ويذرون عليه دخان البخور.
تمخطري يا عروس.
خارجة من دار ابوها رايحة لدار الجيران.
يا غاليين لو أفتح وأغمض ولاقيكم جايين.
ختم الصبر بعدنا بالتلاقي.
داروا لعراس.. المحفل جبّ .. كحلة لنعاس طويلة الرقبة
أحيانا يشعر بالقرف والانزعاج. أحيانا يشعر بالحيرة. أحيانا يشعر بالطمأنينة. أحيانا يتحول كافور الإخشيدي إلى رجل أبيض يرتدي بذلة رمادية أنيقة، في عنقه رباطة خضراء، يتخذ شكل السيد الكبير، يطل من فمه تمثال من الرخام الأرجواني، لبسمة أنيقة، ويتخذ الغلمان المحيطون به شكل السادة المديرين. أيديهم بين ركبهم وهاماتهم محنية.
مرة رأى نفسه، مكان كافور، وكافور، متدثر بالبرنس، في هيئة عروس، والغلمان من حوله، يهتفون بنفس الأغاني، على لحن وإيقاع طلع البدر علينا، بل إنه ليهيأ له، سماع مقطع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع.
تعجب أول الأمر لهذا الاستسلام والتفهم التام الباديين عليه، يميل يمينا إن طلبوا، يميل يسارا إن أشاروا، يجلس إذا ما أوعزوا، يقف إذا ما أرادوا، عريسا إن أحبوا عروسا إن رغبوا...
يتصرف كما لو أنه واحد منهم، اتفق معهم سلفا على كل التفاصيل. بل إنه ليشعر بنوع من الابتهاج، كلما لبى لهم رغبة.
أشعروه بأن عليه أن ينام على بطنه، فامتثل ممتنا،
أحس بثقل كبير، كأنما مصدره قدمان، لشخص عملاق. أدار وجهه قليلا، فألفاه. كافور الإخشيدي بكلكله، ينتصب فوقه شبه عار.
اظلمّت الدنيا. انتشر نوع من الدخان كريه الرائحة، ماجت المنصة من تحته، انحدر في هاوية كبرى. ظل ينحدر، حتى قطع كل المغرب، ليجد نفسه في المشرق، قبالة شمس ليس لها حرارة أو وهج .
يقودونه.
كانوا كما بدؤوا، بعد إلقاء القبض عليه، في الزقاق النتن عديم الأبواب والنوافذ، يقودونه مبرنسا، مزدانا مطيبا.. تمختري يا عروسة.. الليلة الليلة، سهرتنا حلوة الليلة.
الحلقة العاشرة
قصيد في التذلل
2009.09.06 الطاهر وطار

جاؤوا في صف طويل، يسلمون عليه الواحد تلو الآخر، قائلين إنهم زملاؤه، وأنهم كلهم، والحمد لله عرائس. يمد الواحد منهم يده، مصافحا، وما أن تلتقي الكفان، حتى يحرك إصبعه الوسطى، حركة قبيحة، واضحة. ويترنح في غنج. يذهب نصفه الأعلى يمينا، وتذهب فخذاه وركبتاه شمالا، بينما، يذهب عجزه خلفا، في حركة دائرية.


يبتسم عابرا، يبادله الابتسامة، ويواصل مد اليد. فعل ذلك سبعا وأربعين مرة، لم يعدهم، لكن كان يتأمل الأرقام التي على صدورهم، المطرزة بالذهب والحرير والمتتالية طبقا للترتيب العددي.
لو أغمض وأفتح، ولاقيكم يا غاليين، إذا الشعب يوما أراد الحياة..
حليوة ياحليوة، لو شفتم عينيه، حلوين قدِّ إيه.
يخطو ولا يصل، كأنما تداوُل العرسان على المنصة، يجعله يراوح في مكانه،
يجيء كافور.
ما أن يبتسم متذكرا أبيات المتنبي، حتى يختفي ليظهر السيد الكبير، بسيغاره الغليظ، وبسمته الأرجوانية، يظهر أشخاص آخرون، وينصرفون بدورهم، كأنما الصورة كلها خيالية، أو هي شاشة عريضة، تتداول عليها الأوجه والحركات، بما فيها وجهه هو.
فجأة، أظلمت الدنيا من جديد، كما لو كان هناك فانوس ينبعث منه نور قوي، سقط لينطفئ فيسود الظلام الحالك.
الحركة مع ذلك لم تتوقف.
صهيل حصان ينبعث قريبا، صليل حديد، يملأ الساحة.
الغناء تبدل لحنا وإيقاعا ولفظا...
الخيل.
يهتف أحدهم، فتردد معه مجموعة، الله وحده أعلم بعدد أفرادها... الخيل.
والليل.
والليل، تردد الأصوات.
والبيداء تعرفني.
والرمح والسيف.
والقرطاس والقلم.
والقلم.
تردد الهتافات.
لو أن الإمارة تمنح للشعراء، أيها الشعراء، لكان أبو الطيب المتنبي، أول أمير، فقد سعى إليها بكل جهد وإخلاص، نظم ألف وألف قصيد في التذلل، فلم يصدقه أحد.
من يصدق الشاعر، وأعذب الشعر أكذبه.
ثم إن
الذئب لا يربى
مثلما الشاعر لا يدجن
مثلما أن المرآة لا تعكس إلا وجه ناظرها
مثلما أن الجبة لا تحوي جسدين
مثلما أن العبقرية لا تسعها قنينة، ولا تأتمنها سلطة.
الخيل والليل والبيداء تعرفني والرمح والسيف والقرطاس والقلم
اهتفوا...
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا بأننـي خير من تسعى به قـدم،
كان ذلك الذي يتحدث هو المتنبي بعينه، وكان الخطاب موجها إليه شخصيا.
ـ قهوة ثقيلة ومُرّة الله يخليك
صبت له ولنفسها من الغلاية ذات الذراع الطويلة، قهوتها المفضلة، الفرّارة، كما يطلقون عليها في منطقة الأغواط، والتركية كما تسمى في جهات أخرى، وقد جعلته هو بدوره، لا يشرب غيرها.
جلست جنبه، وراحت، تنتظر، ما قد يبوح به، فهذه عادته، عندما يكون لديه جديد يقوله، أو أمر يستشير فيه.
ـ أكاد أعزم على الاستقالة.
ـ بعد أزيد من نصف عام، لقد قلت لي هذا الكلام عشر المرات على ما أذكر.
ـ ولو بعد سنة، ولو بعد دهر.
ـ قلت إنك بدأت تنسجم مع الشغل..؟
ـ لكن المسألة أخطر من الشغل، ومن الوظيفة، ومن الانسجام.
وفكر لو يعلمون سرنا يقتلونني بلا رحمة أولاد الكلب.
ـ هناك شخص آخر يتشكل فيَّ، شخص يحل محلي، يستولي على كل طباعي، وأخلاقي وعاداتي وتقاليدي وثقافتي، يمتصها، يضعها جانبا، يلغيها تماما، يقذف بها في القمامة، أو يحرقها، بعد ذلك، يعوضها بأخرى لا صلة لي بها، قابلة، للتغيير في أية لحظة، بما يلائم متطلبات تلكم اللحظة. وأينما كنت يهمس هاتف ما في أذني:
" الراس اللي ما تقصّوش بوسو خير لك".
من الخارج، أنا، لكن، بلباس رسمي، لا أرتضيه، بذلة داكنة، ربطة عنق منسجمة، قميص أبيض أو رمادي، أو أزرق، حذاء ملمع باستمرار...
إنه ذلكم الشخص حضرة المدير، الذي ما أن يدخل المديرية، حتى يقف جميع الموظفين إجلالا وإكبارا، وتبادر السكرتيرة، بوضع صحف اليوم أمام مكتبه، وتغمره بابتسامة شكر، على التكرم بهذا الحضور الميمون، تلف قليلا، هنا وهناك بالمكتب، تتظاهر بأنها تتفقد حسن الترتيب للأشياء، تتظاهر بالخروج، ثم تعود، وكأنها نسيت أمرا لم تعلن عنه، تقدم له لائحة بمن طلبوه في الهاتف في غيابه، ولائحة بمن بكر اليوم، يرجو استقباله.
نفس الهيئة، نفس الحركات، نفس الهمسات، نفس الاستدارات، تتكرر كل يوم، حتى أنه بإمكانها، أن تبقى في بيتها، وينوب عنها، هذا الخيال، الذي غرسته في المكتب.
هناك ما لا يقل عن عشر دقائق، كاملة، مليئة بهذه الصورة، وبهذا العطر وبهذه الابتسامة، وبهذا التذلل المتحفظ، وبهذه المودة الهجينة.
قد يطلبه السيد الكبير في أي وقت، وفي هذه اللحظة، يبرز الشخص الآخر، بصفة تلقائية وآلية، يتحوّل، ومعه المديرية، بكل موظفيها وعمالها وأدواتها، وأوراقها وأقلامها، وغبارها الذي تتفاداه السكرتيرة، إلى شيء، شيء ما، قابل للتكيف.
ينعدم.
يتواجد.
يتغيّر لونه طبقا لملامح السيد الكبير، ولوضع فمه.
في هذه الحال فقط، يدرك، معنى وقوف موظفي مديريته تحية له.
كينونة برمتها تنتفي، وتحل محلها كينونة أخرى.
الزرماني
الزرماني
:: عضو شرفي ::
:: عضو شرفي ::

تاريخ التسجيل : 12/04/2009
عدد الرسائل : 823
الجنس : ذكر
قصيد في التذلل... آخر رواية للطاهر وطّار على منتدى فرجيوة 34m89662

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصيد في التذلل... آخر رواية للطاهر وطّار على منتدى فرجيوة Empty رد: قصيد في التذلل... آخر رواية للطاهر وطّار على منتدى فرجيوة

مُساهمة من طرف الزرماني الخميس 26 أغسطس 2010 - 16:10

لحلقة 11
قصيد في التذلل
2009.09.07 الطاهر وطار

تماما مثل تلكم الحيوانات، التي تغيّر، لون جلدها تبعا لطبيعة الخطر الذي يتهددها. ليس نفاقا، وليس خوفا، إنما، استجابة طبيعية، لوضعية قامت، منذ ملايين السنين.


مجرد آنية، تستوعب، رزمة معينة من رزم القيم المعدة، والأوامر المعطاة. وترفض كل ما له صلة بغيرها.
غريزة الخوف، وتقدير الأحجام.
إذا ما ظل السيد الكبير، أو أي مسئول آخر أعلى منك، يكذب عنك ساعات وساعات، يقول لك إن جبل الأوراس العظيم، يوجد في الحدود الجزائرية المغربية، فينبغي أن تتظاهري يا فجرية بأنك لم تنتبهي لهذه الهفوة المسكينة، وأن تبدي علامات التصديق الجازم في كل كلمة يقولها. وأحسن تبرير، تقدمينه لنفسك، أن تقولي إنه يختبر، طاعتي واستكانتي، واستعدادي لتقديس كل ما يتفوّه به.
في هذه الحال، تشعرين بانفراج الضيق الذي كان يجثم على صدرك، وتتنفسين، كما يقال الصعداء.
إذا ما شعرت بأية بوادر مشاعر غضب تعتريه، فيجب أن تعتذري، قبل أن يشرع في التعبير عنها. تعتذرين، ليس بعبارات الاعتذار أو بأية كلمة، فهذا قد يثيره.
بل إنه ليستفزه ويثيره، فيكون ما لا تحمد عقباه.
إنما بالانحناء يمينا، يسارا، وقطع خطوة بطيئة إلى الخلف، وفرك اليدين.
فرك اليدين، بصفة خاصة، أبلغ تعبير عن الاستسلام.
إذا ما توجب قول كلمة ما، فيجب أن تكون: إن الغباوة التي تلازمك، هي التي جانبتك الصواب.
كل هذا تكفير عن ذنب لا أحد اقترفه، وعن سبب غضب، لم يتبلور بعد، إنما استباقا لما لا تحمد عقباه.
وإلا كيف يكون التذلل؟
السيد الكبير، ينبغي أن يواصل اقتناعه، بأنه لولا حسن توجيهاته، وسداد رأيه، اللذين هما أساس حسن سير هذه الدولة، لما سار شيء فيها.
إذا ما ابتسم مستحسنا أمرا ما صدر عنك، فاحذري رد فعله الآخر.
إنه سيندم، أو يتظاهر بالندم، حالما يرى الاطمئنان على وجهك...
السيد الكبير، هو أيضا، مثلك، مفرغ من الداخل، وأهل لاستقبال، كل رزمة طباع. مستعد لأن يكون أنت بالذات والصفات المطلوبة، حالما يجد نفسه، قبالة، مسئول أعلى منه. ولنقل السيد الوزير، في حال اقتصارنا على السلك المدني.
قد يكون هرا متمسحا.
قد يكون كلبا، مروضا.
قد يكون بقرة أو نعجة، جاهزة لتحلب أو لتذبح.
قد يكون، دابة أو بغلة أو فرسا ذلولا معدة للامتطاء.
قد يكون مديرا، عقد صفقة مشبوهة ما.
قد يكون مذنبا أمام قاضي التحقيق.
السلطة لا تعطيك، مسؤولية.
السلطة تمنحك أنت للمسؤولية.
تكمل بك، كقطعة غيار في آلة كبرى، ما تفتأ تدور، يمكن أن تلفظك في أي وقت، وتستبدلك، وعليك، أن تتشبثي باستمرار، بقدرتك على التلاؤم، والتناغم، مع كافة القطع.
إذا ما كانت الرشوة منتشرة، فعليك بنسيان عمر بن عبد العزيز.
إذا ما كان الفساد سائدا، فليس أمامك سوى الاندماج، أو الانسحاب. ليس مقبولا منك، الحياد وغض الطرف، والصلاة في أوقاتها.
صدقي أن من قال إن اليد الواحدة لا تصفق، إنما هو السيد الرئيس.
ـ لكنك، قلت إنك تجاوزت كل هذه المراحل.
ـ فعلا تجاوزتها، والدليل على ذلك. هذه الهدايا التي تصلنا من حين لآخر. صحيح أنها هزيلة، فأنا مدير على أفقر خلق الله.. المطربين، والعازفين، والرسامين، والمسرحيين، والشعراء خصوصا. والمحسوبين على الثقافة.
لو كنت مسئولا عن أي قطاع آخر مدرار، كالأشغال العمومية، كالإسكان، كالتجهيز والتموين، كالعلاقات العامة. لكانت الهدايا، لا ترى، هكذا، في علب كارتونية، ملفوفة في ورق مزخرف. معظمها ساعة تايوانية، تؤذن كل خمس دقائق، وتحتاج إلى كيس من البطاريات. إنما تذهب من تحت لتحت، وفي جوف الظلمة، في جعب مجهرية، خفيفة الحمل، عظيمة الشأن، إلى مواقع سرية آمنة، قد تكون هنا، وقد تكون في سويسرا أيضا.
ـ هاتها.
تناول مريم بين ذراعيه، قبلها بلطف. ظل لحظات طويلة، يتأملها، ويتردد في أن يرفع صوته بما يختلج في نفسه من أفكار. خشية، أن تستاء فجرية. وتذهب بالتأويل إلى غير المعنى المقصود.
ماما. مريومة.
نني يا مموشة. عشانا بربوشة.
لو كنت أنا وأمك فقط، لهان الأمر. لحملنا أغراضنا، وعدنا إلى جحرنا في القصبة، في انتظار أن نهاجر إلى كندا، أو استراليا، نبيع للرأسمال الحقيقي، طاقاتنا وقدراتنا، ونُستغل على الأقل بالقوانين.
ـ إنك تقول شيئا في قلبك. أسمعك، وأفهمك.
ـ هي تسمع ولا تفهم. وعندما تجوع، أو يكون لها مطلب، تعبر بفصاحة بليغة. وطلاقة كبيرة، خاصة في الليل، عندما أكون مستغرقا في النوم.
العفريتة.
ـ كثيرا ما تساءلت وأنا ألمس لحمها، وأحس بأنه لحمي أنا، وهو كذلك، لحمي ودمي، عن المبرمج القدير الذي خطط للكائنات أن تكون على ما هي عليه.
ـ دعي الميتافيزيقا جانبا. يكفينا انحرافا.
ـ لكنك تصلي في المسجد.
فاجأته، وفاجأت نفسها أيضا، فالتديّن كما تعرف، بالنسبة لكثير من الماركسيين، يتناقض مع النضال الطبقي.
ـ أصلّي ليس من اليوم فحسب، أنا أصلي من قلبي، أنا واحد من هذا الشعب، أما بالنسبة لهم، فتلك إحدى الطبائع في رزمهم...
ألم أقل لك، إنني كالمومياء الفرعونية، مفرغ الجوف.
عليهم أن يخدعوا هذا الشعب بكل الوسائل، بمبرر وبدونه. يدركون أنهم زيت وماء، لا يمكن أبدا أن يختلطا ويشكلا مادة منسجمة، لكن لكي يوهموا الناس، بأنهم جزء لا يتجزأ منهم، عليهم أن يظلوا يخضخضون ويخلطون، فإن شاءوا أن يروا الزيت، كانت الزيت، وإن شاءوا أن يروا الماء، فالماء، وإلا فنحن وهم الماء والزيت. وعندما يتجاوز الناس حدود الرؤية التي يريدون، ويتطلعون أكثر إلى التمييز، يتوجب عليهم حينها، أن يظهروا على حقيقتهم.
تخرج الدبابات والمدافع والطائرات، والكلاب البوليسية، ويكونون لا زيتا ولا ماءً، لا خلطا أو اختلاطا، الشامي شامي والبغدادي بغدادي.
تختفي التماثيل الأرجوانية من الأفواه، ويشرع عن الأعين، وترتفع العصا، وتتحول إلى حيّات وإلى ثعابين وتماسيح.
الحلقة 12
قصيد في التذلل
2009.09.08 الطاهر وطار

يتجند التلفزيون، يتجند الأمريكان والفرنسيس، يهب الصحافيون والشعراء واليهود والفقهاء، في عملية حضارية كبرى، يطلقون عليها، نعوتا عديدة، مثل اجتثاث الإرهاب، وانتشال الإسلام من السياسة. والتداول على السلطة بالديمقراطية التي يجب أن تكون موصوفة بالحقيقية.

يفقد الميزان كفتيه، ويتحول إلى أداة كيل إلكترونية، ثقلها الوحيد، هو ما يوضع فوقها.
خذيها. لقد نامت.
قبلها في جبينها من جديد، وأودعها لحضن أمها كي تضعها في فراشها.
ـ عندما كان الأمر يتعلق بالانسجام. انسجمنا واندمجنا، وصلينا الجمعة والأعياد، والأوقات الخمس. وحتى التراويح، أما أن يطال الشعر، فلا وألف لا.
تردد في أن يعلمها بأنه يعد تقريرا عن الحالة في الولاية، سيهز البلد وما فيه. ثم قرر أن تبقى قضية التقرير، بينه وبين نفسه. يكفيها ما هي فيه.
ـ أعود حيث كنت.
ـ نعود ثلاثتنا. لو كنت أشتغل، لهان الأمر بعض الشيء... ألا ترى أننا بدأنا نتعود على نسق من الحياة، يصعب علينا، أن نتخلص منه؟ لقد تشكلنا كما تقول كلنا.
السيارة. البنزين. التلفزيون. الفيديو. الهاتف من كل نوع. الحاسوب وأربع غرف متسعة، في فيلة محاطة بالأشجار والحرس. الماء الدافئ في كل آن. والمدفئ المائي في كل غرفة.
أين تريدنا أن نذهب عندما تستقيل.
ـ أسبقكما إلى كندا. أمهد لحياة جديدة، ثم تلتحقان.
ـ هأهأ.. أضحكتني. رجلي برجلك يا أخي. يا "كمراد" فيدال، إن كنت ستفعلها، فعجل. أترك لك مريم وأسبقك إلى أستراليا أو أمريكا. أعالج النخيل هنالك.
ـ خذيني معك يرحم والديك. هأهأ...
ـ لا أدري، لماذا تتشبث بالشعر، وقد غادرك. تخلص منه، مثلما تخلص منك.
ـ ما الذي دفعك إلى التخصص في البيوض المسكين؟
ـ إنك تتجنب الخوض في الموضوع الذي يوجعك. تغير بلباقة، الحديث.
ـ هل أغراك شاب أسمر أسود العينين من واحة من الواحات بالبيوض فكرست حياتك له؟
ـ ساذجة. نسيت نفسي ومستقبلي. كنا مسحورين. الثورة وليس غير الثورة.
ـ ملايين الناس، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، انزلقت بهم التربة.
ـ لقد أبعدتنا عن الشعر وعن الاستقالة وكندا.
ـ نسيت أن أقول لك، هناك احتمال كبير لتوظيفك، في مديرية الفلاحة. لقد وعدوني.
ـ وتريد أن تستقيل؟
ـ أتذكرين الضابط، صديقي.. صديقي الذي.. الذي..؟
ـ كيف لا أذكره، وسيارته هي التي حملتني عروسا.
ـ في موكب كبير ليس فيه سوى تلك السيارة الفخمة.
ـ نعم أذكره. ما به.
ـ سيحضر هنا بعد أيام. قال إنه في مهمة، وإنه يريدني.
ـ اللهم اجعله خيرا.. انس موضوع الاستقالة إذن.
ـ لقد ترقى إلى رتبة محترمة.
ـ يرد الحديث عن زيارة مرتقبة لأحد الوزراء وستحل الكارثة الفعلية، إن طلب مني قول شعر فيه وفي السيد الكبير.
والله، ثم والله. أنتحر أمامهم.
تذكر نصائح مدير ثقافة في ولاية مجاورة، يتعاطف معه، ويتجنب الحديث عن الشعر الذي كان يزعم أنه أحد فرسانه، ويفاخر، بأنه سيقضي عشر سنوات مديرا يحق له التقاعد إطارا ساميا، بعد ثلاث سنوات.
عملية الاندماج في السلك الإداري، والانسجام، مع النسق العام لكوكبة المديرين، وباقي المسؤولين المتنفذين، سهلة، وتكاد تتم بصفة تلقائية. ليس على المسؤول الجديد، سوى أن يفتح أذنيه، للرسائل المشفرة المتبادلة أمامه، والموجهة بصفة خاصة إلى اختبار، قيمه ومثله وأخلاقه. ومدى نضجه، وما تلف وما تبقى منه.
يرد الحديث مثلا بمناسبة من المناسبات الكثيرة، لالتقاء إطارات الولاية، عن مقاول ما في الأشغال العمومية، وعن حاجته الماسة إلى تقاضي ثمن إنجازه للقسمة الأولى أو الثانية من المشروع، الذي هو بصدد إنجازه، فيبادر أحدهم:
ـ لا صوت يعلو صوت الحاجة.
ـ وفي الحاجة تكمن الحرية.
يقهقه الجميع قهقهة بليدة، واضح أنه ليس لها، أي موجب. سوى إحداث ألفة، وفتح مزاج، لكن لها دلالة كبيرة، خاصة عندما تلتقي حولك العيون.
ما رأيك؟
ما تقول؟
من أنت؟
هل أنت عمر بن عبد العزيز؟
أيمكن الاعتماد عليك؟
عليك بدورك، أن تضحك، أو على الأقل أن تبتسم، وإن استطعت، أن تتذكر مقولة الكتاب الأخضر الليبي، في الحاجة تكمن الحرية، فلا تتردد في ذكرها، مع التشديد على كلمة الحرية. وضرب فخذ القريب منك، ضربة غير موجعة لكنها قوية. تقربك منه، وربما تجعله يمد يده مصافحا:
ـ دقَّ عليها، أو هات عشرة.
قد يرد الحديث عن حفلة يقيمها الحاج الفلاني بمناسبة عودته، من العمرة، أو بمناسبة، رحلته الأخيرة الناجحة إلى هونغ كهونغ، أو دبي، فلا تتردد، عن السؤال، متى يكون ذلك؟
أما إذا استغرق أحدهم، في الحديث عن آخر سكرة له بقنينات مشروب، لم يذق مثله، أحضرها له، المقاول الفلاني، فما عليك، إلا أن تتلمظ، ممررا، لسانك على شفتيك، مبتسما.
احذر من الوقوع في فخ من فخاخهم الكثيرة، وضع في حسبانك، أنهم أناس ذوو قدر من التعليم يمكنهم من المناورة والتمييز، تمرسوا في وظائفهم سنوات طويلة، واكتسبوا خبرة كبيرة في معالجة النفوس والضمائر، وتشكلت لديهم غرائز جديدة، وأكثر من ذلك، كثيرا ما يغامرون، فيعرّضون أنفسهم ووظائفهم وقوت أولادهم للمخاطر.
لا تستهن بهم أبدا.
إنك وسط قطيع من الذئاب لا تعرف جدها من هزلها. ولا حدودا لشرها.
من فخاخهم، الاغتياب، خاصة في الزملاء، أو الزميلات. فإذا شرعوا هم، في النميمة والتعريض بزميل غائب، فإنما يختبرون مدى التزامك، بالحفاظ على الأسرار وعلى سلامة الكوكبة، أو الشلة بالأصح.
في هذه الحال، تذكر المثل: كلب ما يعض خوه.
يمكن إبداء شيء من الامتعاض، ومحاولة تغيير، مجرى الحديث، عن أي شيء آخر ما عدا الأشخاص.
تكون قد اجتزت الاختبار الأولي، النظري، ويبقى التطبيق. وهم دائما يكتفون بحكم واحد عن الشخص، والمنزلة التي يضعونه فيها نهائية.
إذا ما اكتشف أحدهم أنك تتلقى رشوة فقد امتلكتهم، واكتسبت ثقتهم المطلقة.
ضع كل هذه الأمور في حسبانك، تنجح، وسال مجرب لا تسال طبيب.
الزرماني
الزرماني
:: عضو شرفي ::
:: عضو شرفي ::

تاريخ التسجيل : 12/04/2009
عدد الرسائل : 823
الجنس : ذكر
قصيد في التذلل... آخر رواية للطاهر وطّار على منتدى فرجيوة 34m89662

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصيد في التذلل... آخر رواية للطاهر وطّار على منتدى فرجيوة Empty رد: قصيد في التذلل... آخر رواية للطاهر وطّار على منتدى فرجيوة

مُساهمة من طرف الزرماني الخميس 26 أغسطس 2010 - 16:12

الحلقة 13
البيـــع
2009.09.09 الطاهر وطار

ترأس الاجتماع السيد الأمين العام، نيابة عن السيد الكبير، وكان الموضوع، الزيارة المرتقبة للسيد وزير الصيد البحري، ولم يغب سوى مدير البيئة وحماية المحيط، فقد كان في رحلة للعاصمة حيث دعي من طرف وزارته.

حيّ السيد الأمين العام، الجميع وسأل عن أحوالهم فردا فردا، وعما يشربون، وانتهى بخلاصة مفادها، أن يحضر الشاي إلى جانب القهوة وكفى الله المديرين شر الاختلاف. كما قال. غير آسف عن الربع ساعة الذي ضاع في التردد.
هذا الاجتماع مهم جدا، بل، تاريخي، لأنه يتعلق بزيارة فريدة من نوعها.
تعلمون جميعا أن ولايتنا سهوبية، يفصل بينها وبين السمك وموطنه ما لا يقل عن ستمائة كلمتر، ومما لا شك فيه أن السيد الوزير ورجالاته الأكفاء يدركون ذلك. ومما لا شك فيه أيضا، أنهم سيوافوننا بغرض هذه الزيارة الميمونة عما قريب، وسندرس ذلك في الاجتماع القادم بحول الله.
أما موضوعنا اليوم فهو كيفية الاستعداد والتنظيم للزيارة، وأفضل أن أترك المبادرة لكم.
نغير وجه المدينة. نطليها كلها باللون الأزرق، قال، وهو يفكر في كميات الطلاء الذي سيستورده أصدقاؤه، وعدد الورشات التي ستنشأ، والاتفاقات التي ستبرم.
ما لا يقل عن "شكارتين"، قال في سره.
- هل تقوى وسائل البلدية على إنجاز كل ذلك في هذا الظرف القصير..؟
- أية بلدية يا رجل، والله العظيم ونبيه الكريم، لن تلحق حتى أن توفر الطلاء.
- يحيا القطاع الخاص الفحل.
- نتفق على هذا القرار. نكتفي بتغيير وجه الشارع الرئيسي ونحرص على أن لا يعبر أو يرى سيادته ومن معه باقي المدينة. الجدران بيضاء والنوافذ والأبواب زرقاء.
هذه مهمة مديرية الأشغال العمومية بالتعاون مع المؤسسات المعنية.
أنهى أمين عام الولاية المناقشة حول بند تهيئة المحيط، وتوجه إلى مدير الثقافة:
- وأنت؟ ماذا في جعبتكم. في حقيقة الأمر وواقعه، الأمل في إنجاح الزيارة، معقود عليكم.
- قبل ذلك، أريد أن ألفت أنظار حضراتكم، إلى ضرورة اتقاء ألسنة مراسلي الصحف. سيسخرون من طلي شارع واحد، سيقولون...
لم يتمم الجملة فقد قاطعه، أكثر من واحد شاكرا هذه اللفتة الذكية. انتبهوا له جيدا، وتشربوا كل كلمة لفظها، بينما كانوا في العادة، ما أن ينطق الكلمة الأولى باللغة العربية، حتى يتبرموا ويروحوا يفتعلون أحاديث جانبية، بينما آذانهم مكسورة نحوه.
- إما أن نطلي أو لا نطلي في هذه الحال.
قال مدير الصحة. بينما أضاف مدير الأشغال العمومية والطرقات
- والله يا جماعة، من رأيي أن نعمل بالمثل الشعبي اللي سهر يكمل سهرتو المدينة متسخة، والصيف على الأبواب، نطليها كلها والسلام.
ضحك الجميع من المثل الذي ضربه، فهو يكرره تقريبا كل ليلة، في جلسات الاستراحة كما يسمونها، جلسات الشرب، غير أن سهرته هذه جديدة، جادت بها قريحته لتعوض سكرته. ضحك بدوره، مضيفا:
- والله يا جماعة المرء أحيانا لا يدري ما يخرج من فمه... كلام السيد المحترم مدير الثقافة في محله، وصواب في صواب.
- فلنطل إذن، ولو بالجير.
قال الأمين العام، فانبرى مدير الشؤون الدينية:
- لا. إما وإما، سنغضب الشعب، ونستثير سخرية الصحفيين أكثر.. وأنبهكم إلى أن قباب المساجد، ينبغي أن تطلى بالأخضر وليس بالأزرق، واسمحوا أن ألفت انتباهكم، إلى أن اللون الأزرق، وإن كان لا بد منه في حالتنا، وحالة الجزائر كلها، التي حباها الله، بعشرات المئات من الكلمترات من السواحل البحرية، هذا اللون يا سادة هو لون الصهاينة، ويعنون به من الفرات إلى النيل.
تردد الجميع بين الضحك والانقباض، فالالتفاتة ذكية وغريبة، نوعا ما، لكن التذكير بالصهيونية، في غير محله، يجر ذلك إلى استحضار إخواننا العرب في فلسطين وأحوالهم السيئة، وأوضاعهم المتردية، كما يتطلب ولو قليلا من التعليق، أوله وآخره، التعرض لأصحاب الفخامة والجلالة بالتجريح، والمقام ليس بالمقام.
- انتهينا. الموضوع أخذ نصيبه من النقاش. وستكون القباب وحتى الصوامع إن شئت يا سي الحاج.
- القباب فقط.
- نعود إلى الأستاذ مدير الثقافة. الاعتماد كله عادة عليكم.
كانت عبارة الأستاذ على غير العادة، مشحونة بالاحترام، وقد أدرك الجميع، المغزى، وتمنوا أن تأتي هذه الرسالة المشفرة بأكلها.
- أفكر في معرض للكتاب واللوحات الزيتية والخرائط البحرية، وبعض الرسومات لأسطول الجزائر أيام خير الدين وبابا عروج. وفي دعوة قيادة البحرية الوطنية لإقامة أيام مفتوحة على البحرية الجزائرية، وفي تنظيم مسابقة في كرة القدم بين الفرق البلدية، وإن كانت لديكم اقتراحات أخرى فأرجو أن تساعدونا بها فأنا كما تعلمون لم يسبق لي...
قبل أن ينهي جملته، انفتح الباب عن غادة جميلة، متسرولة بجين، وتغطي جزءا من نصفها الأعلى بجاكيتة حمراء، وبقيت سرتها، المزدانة بوشم يمثل فراشة طائرة، بين أسفل وأعلى الصرة وأسفلها قرابة الثلاثة أصابع، من لحم أسمر يفيض لدونة.
ـ صباح الخير.. آنسة
قالها الجميع نهوضا وبابتهاج ملحوظ.
ـ صباح الخير. السيد الكبير يطلب الأمين العام والسيد مدير الثقافة.
قالت بفرنسية طليقة، وولت مستديرة برشاقة.
نحنى الأمين العام وهو ينتظر الإشارة بالجلوس.. جلسا.
تفحص بسرعة وجه السيد الكبير، وركز على الأنف متأكدا من جهة ميلانه، فكما استخلص فإن كل ما في السيد الكبير، ينحصر في حركات الأنف.
إن كان غاضبا، ينكمش ويتحول إلى فردة حذاء قوسها صهد الشمس، أما إذا كان منبسطا، فيتحول إلى أنف جمل يتحرك يمنة ويسارا مجرجرا معه الفك العلوي.
اللهم اجعله خيرا قال في سره، وهو يتذكر الاستقبال الخطير الذي كاد يعصف به.
الحلقة 14
قصيد في التذلل
2009.09.12 الطاهر وطار

لم تجيء الدعوة يومها لا من السكرتيرة، ولا من الأمين العام، أو من مدير الديوان، إنما وللغرابة، من مسئول الحرس الخاص للسيد الكبير. تركه ينتظر ما يزيد عن عشرين دقيقة في الرواق الفاصل بين قاعة الاستقبال وبين المكتب.

وعندما يئس، وامتلأ بالملل، أذنت له السكرتيرة بالدخول، لكن، الأنبوبة الحمراء ما تزال تلمع، معلنة، عن وجوب الانتظار.
ألقت نظرة مشفقة عليه، ثم انصرفت لشأنها، محنية الرأس.
قطع خطوات، أماما، ثم خلفا، وفي كل مرة يرفع بصره نحو الأنبوبتين الخضراء والحمراء.
"من ناحية، أنا تابع لوزارة الثقافة، أتلقى منها الأوامر، وحر في تسيير الميزانية المخصصة للمديرية، وأوجه لها التقارير، ومن ناحية أخرى أنا مهيكل، في هذه الولاية، لا أستطيع أن أتنفس إلا بمشيئة السيد الكبير. يتصرف معي، كما لو أنني أحد الكتبة، عنده.
ترى ما سيكون الوضع، لو أبدي بعضا من التمرد عليه..؟
يلغي حضور الاجتماعات.
توقف السيارة بسبب أو بآخر.
تعيين أحد مساعدي للتواصل معه، بدلا مني.
تغييبي عن الحفلات الرسمية وتنقلاته. واستقبال الوفود الزائرة.
إمكانية منعي من دخول بعض المواقع في الولاية.
يدوم ذلك، وقتا، الله أعلم بمداه، في حالة الغضب من الدرجة، البسيطة، أما إذا كان من الدرجة القصوى، من الكبائر، فتقرير سريع للوزارة الوصية علي، للوزارة الوصية عليه، وتتجند الأجهزة السرية بكل أنواعها، لإلصاق التهم وكيد المكائد.
أجمد شهورا.
أحول إلى الإدارة العامة.
ربما، ربما، إن كنت محظوظا، أحول إلى ولاية أخرى في نفس المنصب.
اللهم اجعله خيرا."
رن جرس. انطفأ الضوء الأحمر. نوّر النور الأخضر.
بحث عن موضع في الباب المجلد، يدق منه، اقتحم الباب الذي كان الجرس سببا في فتحه.
حيّ. تفحص مليا، الوجه الضخم، المدثر بدخان السيغار. انتظر الأمر بالجلوس. حاول قدر الإمكان أن يكون ثابت الجأش رابطه.
ـ لماذا لا تجلس؟
ـ أوامركم سيدي الكبير.
ـ اطلعت على برنامج النشاط الذي أعددته، وقد راق لي كثيرا. كما أحب تماما. مهرجانات، ومهرجانات. حفلات وسهرات. فولكلور من كل نوع. استبعدت ما كان سلفك يرهقنا به من الكلام الفارغ، مثل المحاضرات والندوات، ومسرحيات تعّرض بسلطات البلاد.. وما إلى ذلك من ثرثرة لا تجلب سوى الأذى.
كما لو أنك اطلعت على ما يدور في خاطري.
المغني يمكن أن نطلب منه نوع ما سيغني. الراقص يمكن أن نوقفه في أية لحظة، بإيقاف العازف. أما المحاضر، فلا يمكن أن نتحكم فيما سيقول. ابعد عن البلى يبعد عليك.
ـ الحمد لله الذي وفقني بفضل التوجيهات السديدة التي تتفضلون بها علينا جميعا.
ـ لكنك خبيث ولئيم، ونذل ابن نذل.. ككل الشيوعيين الكلاب.
ـ سيدي الكبير.
ـ سود الله وجهك.. تقدم لي برنامجا، وتتآمر مع المتمردين، على برنامج آخر مواز.
ـ سيدي الكبير.
ـ عشر محاضرات كاملة، منها اثنتان يلقيهما أجانب، وخمسون شاعرا تجمعهما هنا عندي، ولا خبر.. آخر من يعلم.
ـ لا أفهم ما تقول حضرة السيد..؟
ـ خذ . اقرأ أليس هذا برنامجا موازيا؟
ـ هذا برنامج أعدته جمعية مستقلة عنا، ولم أقدمه لكم باعتبار أنه خارج عن نشاط المديرية.
ـ بلا مستقلة، وبلا استغفال. نعطيهم الدعم، ويظلون مستقلين...
اسمع لا يوجد استقلال أصلا في هذه المنطقة، في هذه البلاد كلها. نحن حصلنا عليه، هذا الاستقلال، ونحن نعرف كيف نتصرف فيه، ونفعل به ما نشاء. اكتسبناه بالدم، ومن له قدرة على انتزاعه منا.. فليتقدم .
إن الذين أقروا في مؤتمر الجبهة، مبدأ وحدة التفكير، هم الذين ما يزالون يحكمونكم. الدولة التي اختارتني ووضعتني هنا، تعلم ما تفعل، وليس معنى أن لك ميزانية، وحق التصرف المالي، أن لك أيضا، حرية إنشاء الخلايا وبث أفكارك الجهنمية.
أنا هنا كل شيء. هل فهمت.؟
ـ واضح سيدي الكبير.
ـ مع من تعشيت البارحة، أليس مع رئيس جمعية المحاضرات الحمراء هذه؟ من أعطى هذا الحمار أسماء المحاضرين؟ ألست أنت؟ لقد خصصت له ولجمعيته، مبلغا يساوي كل ما حصلت عليه الجمعيات الأخرى مجتمعة.
هذا هو أسلوبكم الذي لا يتغير. تعطون بيد، وتأخذون بأخرى.
قدم السيد الكبير، له تقريرا معدا بطابعة ليزر في عدة صفحات، يتضمن موجزا عن ماضيه السياسي، عن الولايات التي تطوع فيها لمساندة الثورة الزراعية، عن نوع الخطب التي كان يلقيها، عن زوجته، عن علاقتهما الحزبية، حتى عن اسميهما السريين.
ـ هل المعلومات الواردة صحيحة؟
بسرعة فائقة.
سرعة لا يقوى عليها سوى العقل البشري، ذاكم الذي يطوي الأزمنة والأمكنة، إلى أن يلغيها، فيجعلها شيئا ربانيا، تتجلى فيه كل الأشياء... نقطة مليئة بكل ما في الكون.
انصرف ذهنه، إلى جميع الاحتمالات، وجميع القضايا المرتبطة به، بالسيد الكبير، بالولاية، بالسلطات جميعها، بالموقف الصح من الخطأ، بما قد يترتب عن الإنكار، عن الاعتراف، عن إمكانية تصريف الأمر وتجاوزه، عن الزيارة المزمعة لصديقه الضابط، عن هذا الغضب المفاجئ للسيد الكبير، هل هو حقيقي أم مفتعل، فمزاجه يبدو أنه اصطناعي، برمج، وحفظ في اسطوانة يركبها حين يكون داخل المكتب أو بصدد استقبال موظف أو زائر ما...
ليتحمل كل منا مسؤولياته.
إنكار ما هو حقيقي، تعقيد لا فائدة من ورائه.
ـ مائة بالمائة.
قال.
تظاهر بأنه لم يستطع التحكم في أعصابه، أكثر مما فعل.
نهض، بعد أن وضع التقرير بحركة عادية أمام السيد الكبير، كرر.
ـ مائة بالمائة. سيدي الكبير. والسلطة التي عينتني، هنا، في هذا المنصب الحساس، على علم، بكل التفاصيل، بل، أنا واثق، من أنها اختارتني، لهذه المنطقة الحساسة، لكل هذه التفاصيل.
احتراماتي سيدي الكبير. لكن وحسب علمي توجد سلطة واحدة في هذا البلد، وهي مصدر التوجيه، حتى وإن سلمنا، بوجود التعددية الحزبية، وما ننادي به من حرية الرأي والتعبير والصحافة.
ـ اخرج. اغرب. نعلم أنكم تحسنون الكلام والخطابة.
خرج غاضبا بدوره، حتى أنه لم يغلق الباب خلفه.
ما أن تواجد في الرواق حتى ظهر الفراشون، ورئيس الديوان، والسكرتيرة. والسائق والأمين العام.
كانوا ينظرون إليه جميعا باستغراب، وتعجب، كيف، وهو المؤدب، الهادئ، الوقور، مدير الثقافة، الذي لا تفارق ربطة العنق رقبته، يسمح لنفسه، بأن يثير السيد الكبير إلى هذا الحد. أي نوع من الاستفزاز، هذا الذي أوصل الأمور بينهما إلى هذا المستوى؟
الزرماني
الزرماني
:: عضو شرفي ::
:: عضو شرفي ::

تاريخ التسجيل : 12/04/2009
عدد الرسائل : 823
الجنس : ذكر
قصيد في التذلل... آخر رواية للطاهر وطّار على منتدى فرجيوة 34m89662

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى