عطر الكاليتوس ....الجزء الثاني

بســــــــــــــــــــم الله الرحمن الرحيم

قررت اليوم أن اكمل القصة الرائعة التي قرأتها مرار ومرار ولم أمل منها ,"عطر الكاليتوس " التي جذبتني للوهلة الأولى عندما سمعتها - صدفة - بلسان كاتبتها عبر أمواج الإذاعة الوطنية , والتي اضافت للقصة روعة أخرى بصوتها و بأسلوبها المميز في الإلقاء .
إليكم :

عطر الكاليتوس


استعدت كذا حكاية من مذكرات الماضي ....وتنجذب عيناي بين اللحظة والأخرى نحو السور المقابل ، الذي يفصلنا عن منزل الطفولة ، حيث ارتشفت الحنان والحب إلى غاية يوم وفاتها ...
تعلقت عيناي بعيني خالتي " فاطمة " وهي بقهقهاتها تلج بالحديث لأمي ، وسافرت بهما لذكرى ذاك اليوم ...حيث عانقتني بشدة أمام مدخل بيتنا ذاك ، تصرخ في أذني الصغيرة :
" ..أمك ماتت ، خلاص ماتت .." .-
" ما معنى ماتت ؟؟ ..." .-
كان ذاك اليوم الذي عرفت فيه ، أن جدتي لم تكن أمي ...
ولن تمسح عن ناظري صورة أخوالي وهم يحملون نعشها على أكتافهم ، فارتميت إلى أرجلهم أتوسل إليهم أن لا يأخدوها منيِّ...
منذ ذاك الحين وأنا يتيمة ، لم أحس بالسعادة قط وسط أبي وأمي ...الذي لم يمر يوم إلا وتشاجرا فيه أوانباني ..
- "مزيداً من القهوة ؟ "..
عدت إلى دائرة مجلسنا وأنا أتحسس إذا ما كشفت دمعة ما عن استيقاظ الجرح في أعماقي الذي أحسبه لم يندمل, ولو بيع المنزل الكبير ، إلاَّ أنه سيظل في ذاكرتي بزواياه وغرفه وبلاطه القرميديِّ ، تتوسطه شجرة الليمون حيث كان جدي يرتل القرآن ...والأرض تكسوها أسراب الحمام تحلق غادية عائدة كلما خرجنا إلى الحوش نتناول الشاي في الضحى...
كم تسليت لما أمطر نفسي بفتات الخبز وهي تهاجمني ؟ ..، فتطاردني جدتي بوابل من السبِّ فأضظر لتكرار الأمر ما إن أعرف أنها ملتهية بالداخل ثم أنظف المكان بعدما أتأكد أن أعصابها هذه المرة لن تدفعها لتأنيبي فحسب ...
- " أما زال الحمام يعود إلى منزلنا القديم ..؟ : .
تفاجأ الجميع بسؤالي الخارج عن مواضيع حديثهم ...
- " ... قليلاً.. من يتذكر المكان .." .
- " وماذا عن شجرة الليمون ...؟ " .
- " ياه ! لقد ماتت منذ عشر سنوات .." .
تملكتني رغبة جامحة في أن أكسر الباب الموصد بالحديد ، أو اقفز من على الأسوار ...يشدني الشوق لملامسة حيطانه المهشمة ، الدوران في غرفه ...، وغرفتي ...كانت لي ولجدتي ..لكن المنزل لم يعد لنا ..
تنهدت أسفاً وحسرةً ...وجُلت بعيناي حوش الجيران من خلف الستار الشفاف لغرفة مجلسنا ، ..كان هناك صهريج الماء منذ عشر سنوات ، وحمزة يلف حوله مبتهجا لصراخي وهو يرميني بالماء ، لم نكن ندري أنَّ تلك القطعة النقدية في قاع الصهريج تجذبه للعالم الآخر ، ومنذ ذلك الحين وحمزة صغير لم يكبر بعد...
مضت ساعاتان بسرعة البرق ولم يتبق إلاَّ بضع لحظات لإقلاع الطائرة ...
كانوا يبتعدون عنيِّ مودعين ...وأنا ارقبهم بعيون دامعة من خلف زجاج السيارة ، حتى بدا المطر غزيراً وبات فراقهم عزيزا ً..لم آخذ منهم إلاَّ رائحة التراب الممزوج بذبال أوراق الكاليتوس التي تتعلق بأنفاسي ، توقظ في رائحة الذكرى....


**********النهاية************